نُشر في العرب (صحيفة يومية عربية تصدر فى لندن) 04/11/2014 عدد 9728
ليس ثمة شك أن نتائج الانتخابات التشريعية التونسية الأخيرة قد أفرزت معطيات جديدة في الحياة السياسية التونسية تتمثل في نقط أساسية نلخصها كما يلي:
1 – نستطيع ملاحظة تدحرج الأيديولوجيا التي تربط السياسة بالدين، حيث أن الإسلام السياسي، وهو متنوع الأشكال، لم يستطع أن يظهر وجها وسطيا مقبولا، إذ أن إدراكه داخليا وخارجيا مازال تحت وطأة العنف والإقصاء والإرهاب. فحزب حركة النهضة قد تقدم في هذه الانتخابات بأفكار يغلب عليها النمط التحرري ويبتعد بها عن التشدد والعنف والإقصاء مما أقلق قسما لا يستهان به من أنصارها. فقدت إذن هذه الحركة الأغلبية في البرلمان، ولم تستطع إقناع الشعب التونسي بتوجهها الجديد اعتبارا لممارساتها غير المطمئنة عندما كانت في السلطة، إذ تنامى العنف وكثرت الاغتيالات، وصعبت المعيشة وكثر الفساد، وتغلغل الإرهاب والتهريب والممارسات اللاقانونية. فكيف نفسر حصولها على الرتبة الثانية؟
كان ذلك متوّقعًا، نوعا ما، نظرًا- كما بينا- لفشلها في قيادة حكومة الترويكا والحفاظ على مكتسبات الدولة وارتباطها في ذهن التونسيين بظهور الإرهاب والعنف وتدهور المقدرة الشرائية ومحاولات “أخونة الدولة والمجتمع″، زد على ذلك فشلها السياسي المتمثل في عدم قدرتها في تمرير قانون الإقصاء واستعمالها الدائم لازدواجية الخطاب، مما أربك جزءا من أنصارها. ولكن ارتقاءها إلى المرتبة الثانية وعدم انهيارها بالكامل، حتى أن قياداتها تحدثوا عن انتصار في هذه الانتخابات، يعود إلى سبب هام لابد من الإشارة إليه والمتمثل في قوة إرادة أنصارها والانضباط الهائل لمناضليها.
2 – نستطيع أيضا ملاحظة بروز حزب ذي مرجعيات وأيديولوجيات متعددة لمّ شتات المعارضة الكلاسيكية ضد التوجهات الإسلامية وظهر بوجه وسطي مقبول جمع بين كل الانتماءات التي تريد لتونس أن تكون بلدا وسطيا على منوال ما حاول بناءه بورقيبة بعد الاستقلال، لذلك جلس البورقيبي والدستوري جنبا إلى جنب مع اليساري ومع الإسلامي اليساري، كما تجاورت الأيديولوجيتان اللبرالية والاشتراكية. فهل يصمد هذا التوجه التنوعي في ظل الصراعات الداخلية للفوز بمواقع نفوذ في السلطة؟ وكيف نفسر نجاح هذا الحزب في هذه الانتخابات. وهل يكفي أن نقول بأن التصويت العقابي هو السبب؟ حسب كل الملاحظين، يعود هذا النجاح الباهر لحزب لم يتجاوز عمره السنتين إلى موجة السخط من قبل كل مكونات المجتمع التونسي على تجربة حكم الترويكا وتغوّل حركة النهضة، كما يعود إلى بحثهم عن حزب قويّ تقوده شخصية كاريزماتية. ذلك لاشك فيه، ولكن قناعتنا أن هناك سببا حيويا لابد من الانتباه إليه، يتمثل في قوة إرادة المجتمع المدني للمحافظة على مكتسبات الحداثة الاجتماعية، وعلى مدنية الدولة.
3 – كذلك يمكننا التأكيد على النجاح التاريخي للجبهة الشعبية التي تمثل جزءا من اليسار التونسي. ليس ثمة شك أن هذا النجاح يعود إلى انضواء بعض الأحزاب اليسارية في جبهة موحدة عرفت بعد 23 أكتوبر 2011 كيف تتوّحد وتتجاوز خلافاتها الظرفية، وتكون جبهةً منفتحة قدّمت خلال السنتين الأخيرتين نضالا سياسيا وإعلاميا غزيرا ومتميّزا عما تقّدمه الأحزاب الأخرى مثل حركة النهضة ونداء تونس، كما يعود هذا النجاح إلى مستتبعات اغتيال اثنين من رموزها، ونعني الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهو ما خلق لها تعاطفًا شعبيًّا واسعًا وفتح لها إمكانات كبرى للعمل الميداني وحتى الجماهيري، وفي ظني أن اليسار التونسي مجبر على ترك مرض الزعامة ليتوحد على منوال ما قامت به الجبهة الشعبية إذا ما رام الانتصار في الانتخابات القادمة. على أنني أريد هنا أن أؤكد على سبب آخر قلّما انتبه إليه المحللون، وأعني الإرادة الفولاذية لأنصار الجبهة الشعبية وللمناضلين اليساريين بصفة عامة لدخول أول برلمان ديمقراطي تعددي في ما يسمى بالربيع العربي بعد فشل اليسار بصفة عامة في التواجد بكثافة في المجلس التأسيسي.
4 – أما نجاح حزب الاتحاد الوطني الحر فيعود أساسا إلى شخصية رئيسه سليم الرياحي، وهو رجل أعمال ذو ثروة مجهولة المصادر، وظف ثروته في قطاعين إستراتيجيين في التأثير والتعبئة ونعني رياضة كرة القدم وقطاع التلفزيون، وذلك ما مكّنه، حقيقة، من أدوات جماهيرية طالت شريحة هامة من الشباب والنساء.
وباستثناء نجاح هذا الحزب الأخير فإن الإرادة لعبت هذه المرة دورا لا يستهان به في تحقيق النجاحات الانتخابية. فالحياة الإرادية كما تتطور في الواقعية التاريخية وفي المجتمعات ذات التوجه الديمقراطي هي المحرك الأساسي للتحولات والتغيرات السياسية. فمرة أخرى تتحقق مقولة الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”، ولنا أن نتساءل هل أن التاريخ الراهن للإنسانية هو صراع الإرادات الانفعالية التي لا ترمي إلا لعظمتها الخاصة، أم سيكون مشروعا مشتركا لتحقيق حياة أفضل لكل شعب؟
يتمثل جوهر الانتخابات التشريعية التونسية في القدرة العجيبة للشعب التونسي على تحرير إرادته ونضاله اليومي والدائم من أجل فرضها تحقيقا لرغبته في الحياة الكريمة والآمنة. شعب يريد بهذه العزيمة تحقيق مآربه وأهدافه لن تزعزعه المؤامرات الإخوانية المدعومة بالإمبريالية والصهيونية. فقد أطرد مثلا الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي عندما رفع في وجهه عند خروجه من مطار تونس عبارة “ديغاج” التي استعملها الشعب لطرد زين العابدين بن علي. وقد حلَّ هذا الكاتب، الذي قد نعتّه في أعمالي بجندي القلم، اعتبارا لأنه ساهم في تحويل الربيع العربي إلى حروب أهلية في ليبيا وسوريا، خلسة بدعوة من جهات إرهابية تحاول إحداث صراعات جهوية في تونس بين الشمال والجنوب. وقد تمكن، قبل طرده من قبل السلطات التونسية، من الاتصال بهؤلاء الخونة وبممثلين عن الإرهاب الليبي والجزائري حسب بعض الجرائد التونسية. وقد تعهد القضاء التونسي بمحاكمته ومحاكمة الجهة التي كانت وراء مجيئه لأن الشعب التونسي قد اعتبره مجرم حرب. فإرادة الشعب إذا ما تحررت ستصنع الحياة من جديد وستبني إنسان الغد.