لماذا المصالحة؟

نُشر في الشروق (صحيفة يومية عربية تصدر فى تونس) 11/08/2015

ليس ثمة شك أن المصالحة في حد ذاتها قد أصبحت اليوم ضرورة تمليها الظروف الصعبة التي تعيشها تونس اليوم. ولست أريد هنا إضافة الأدلة على ذلك. فنحن نقرأ في جريدة الشروق وغيرها مداخلات لمفكرين ومختصين يدعمون هذه الضرورة ويحللون أسبابها ومعطياتها. ولكن الإشكالية الأهم في نظري تتمثل في كيفية اختيار المنهجية المثلى لكي تكون هذه المصالحة ناجعة ومجدية وفعالة قد تخلق توازنا اجتماعيا جديدا كم نحن بحاجة إلى تطويره وتفعيله. لذلك لابد من تحديد مجال هذه المصالحة.

هل هي اقتصادية مالية بحتة أم تشمل مجالات أخرى قد طالها الفساد مثل الإدارة والمدرسة والإعلام وبعض الهياكل الإجتماعية وغيرها ؟ ثم هل ستقتصر هذه المصالحة على الذين أذنبوا في حق الشعب قبل الثورة أم ستشمل أيضا من اعتبروا تونس غنيمة قد اقتسموا خيراتها بعد الثورة ؟ وإذا اقتصرنا جدلا على أصحاب المال والأعمال « الفاسدين المفسدين » قبل الثورة أليس من المجدي أن نتساءل عن الأسباب الهيكلية التي حولتهم إلى مفسدين ؟

ففي قناعتي أنه كان بإمكان أي رجل أعمال أتيحت له نفس الظروف أن يخطو خطاهم ويفسد كما أفسدوا. لكل ذلك قضية المصالحة شائكة ومعقدة تستوجب التأني في التحليل والتشخيص والدقة في أخذ المواقف والقرارات حتى لا تصبح نقمة وخطرا على المجتمع وحتى لا تكون عملية تبييض الفساد وإنقاذ العائلة التي عاثت فسادا في عهد بن علي. لأن المصالحة مع المفسدين إذا لم تكن دقيقة وتصاحبها تعبئة وطنية ضد الفساد ستصبح عاملا مشجعا للفساد باعتبار أن المجتمع سيتسامح مع المفسدين طال الدهر أم قصر.

ومهما يكن من أمر فإن المصالحة لا بد أن تمر بمراحل نلخصها بسرعة في النقط التالية :

1-المحاسبة تقوم بها اللجنة المختصة في العدالة وتكون علنية تضمن حقوق الجميع والهدف منها تحديد المسؤوليات وضبط الأضرار لا محالة ولكن فائدتها تتمثل في التعرف الدقيق على تقنيات الفساد المستعملة حتى نفكك منظومة الفساد لمقاومتها ومحاولة القضاء عليها.

2- الإعتراف وهي عملية ضرورية هدفها أن يتحصل « المتهم  » على رضا المجتمع عندما يبين حسن نواياه وعدم الانسياق في الفساد مستقبلا. لقد بين مثلا الفيلسوف الألماني هيغل أن الإنسان الذي يريد أن يكون حرا أي بلغة هيغل الوعي بالذّات الذي يمتلك اليقين بذاته أن يعمل على ضمان الاعتراف به ويعترف بالآخر بما هو وعي حرّ. هكذا يشكّل هذا الاعترافُ تّواصلا آنيا بين أفراد المجتمع الذين يتوقون إلى الحرية والكرامة من أجل تفادي التّحطّم الذّاتي والصّعود إلى أقصى العنف وأعني الإرهاب. لذا يكون له الوظيفة نفسها التي يقوم بها الرّدع بالمعنى الاستراتيجي. فالإعتراف المبني على النزاهة ضمان للتوازن الاجتماعي المنشود حاليا. بدونه سيسحب الشعب ثقته في عملية المصالحة ذاتها.

3- الإنصاف وهي عملية صعبة تضمن حقوق المتهم بالحفاظ على كرامته بعد محاسبته واعترافه واعتذاره ومعاقبته إن لزم الأمر والقيام بالتعويضات اللازمة كما تضمن في الآن نفسه حقوق الشعب المتضرر حتى لا يشعر بالغبن والقهر مرة أخرى وهو الذي كان يشاهد الفساد دون أن يستطيع التحرك والاحتجاج والنضال والمقاومة.

4- الإصلاح الذي يجب أن يصاحب عملية المصالحة من أولها إلى أخرها. فما الفائدة إذا تصالح المجتمع مع هؤلاء المذنبين وترك الباب مفتوحا للفاسدين المفسدين الجدد ليعبثوا بخيراته مجددا لاسيما ونحن نشاهد تفشي الفساد بصفة غريبة بعد الثورة وظهور الثراء الفاحش المتأتي من التهريب وبيع الأسلحة والفساد المالي والإقتصادي والمجتمعي ؟ لابد إذن من تعبئة الوطن لمقاومة الفساد بكل مظاهره من خلال إرادة سياسية حقيقية من ناحية ومن خلال تحركات دائمة للمجتمع المدني. كل ذلك يجب أن يضفي إلى قيام إصلاحات جذرية في المعاملات المالية والاقتصادية لا محالة ولكن وأيضا في النظام التعليمي بالتأكيد على القيم الانسانية والأخلاقية وفي النظام الإداري والإعلامي وغير ذلك من الأنظمة المكونة للنسق الاجتماعي التونسي وبذلك ستؤدي المصالحة التي تصاحبها هذه التعبئة الوطنية ضد الفساد إلى التصالح، تصالح المجتمع مع ذاته يؤدي حتما إلى تجاوز العنف بكل مظاهره بما في ذلك الإرهاب ويعطي للتونسي أسباب العيش المشترك في كنف الكرامة.

Comment / Commentaire