نُشر في العرب (صحيفة يومية عربية تصدر فى لندن) 12/11/2013 عدد 9377
بعد تعليق الحوار الوطني في تونس يوم 4 نوفمبر 2013 لابد من طرح السؤال التالي هل كتب على المعقولية العربية أن لا تتحاور ولا تتفق؟ هل معقوليتنا هي معقولية الإبداع والتعقل ومن ثمة معقولية التفاهم والتواصل، أم هي معقولية الغلبة ومن ثمة معقولية القاهر والمقهور حسب تعبير الفارابي؟ هل أن المعقولية العربية الحالية قابلة حقا لكل معطيات المداولة؟
قلت معقولية عربية ولم أقل عقلا عربيا، لأنني أعتبر أن العقل في كونيته واحد لا يخضع لاعتبارات جغرافية وسياسية ولا تتسم به حضارة دون غيرها لأنه آلة منطقية يتفاهم بها الناس جميعا أينما كانوا ودون اعتبار اختلافاتهم الثقافية. إلا أن العقل يتمظهر في ثقافة معينة تتقبله بنمط خاص وتستعمله بطريقة مختلفة. نسمي هذا التقبل من قبل ثقافة معينة أو علم معين أو ميدان خاص بالمعقولية كأن نتحدث عن معقولية عربية أو معقولية اقتصادية أو معقولية لسانية. هذا التوضيح يجنبنا كثيرا من الخلط والغموض والأفكار المسبقة.
حتى نستطيع تقديم إجابة جزئية عن هذا السؤال، لابد من تفكيك هذه المعقولية العربية الحالية ونقدها نقدا جذريا وصريحا دون مجاملة ودون مبالغة.
فالمتصفح في معطيات المعقولية العربية كما تتوظف اليوم في المجالات الحياتية العامة يلاحظ من أول وهلة شرخا عميقا يسكنها. فمن ناحية تتقبل هذه المعقولية كل ما يرد عليها من تكنولوجيات متطوّرة ولكنها من ناجية أخرى كثيرا ما ترفض كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة وراسخة في المجتمعات العربية ونعني بذلك مظاهر الحداثة ومستتبعاتها. وقد يزداد هذا الشرخ عمقا عندما نعرف أنّ مرجعية هذه المعقولية تبقى في مجملها حبيسة الفكر الماضوي بينما تحاول في نفس الوقت استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا فتكون بذلك مستهلكة غير مبدعة في هذا الشأن، بل غير قادرة على الحضور في العالم. وبذلك تنزلق في تناقضات عميقة تجرها إلى الغصبية فتبعدها عن التعقل وتقترب بها إلى العنف.
فكيف تتمظهر هذه المعقولية العربية بشرخها العميق ؟
الأمر الأول الذي يلفت انتباهنا هو أنّ هذه المعقولية مازالت سجينة التجميع والتفتيش والتأريخ والنقل والتنقيل والشرح والتفسير كما بين ذلك الدكتور شاكر النابلسي. لم تصل بعد إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات. فقد بقيت معقوليتنا للأسف نقلية في الأساس، إذ لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي لأنّ هذه العقلية مازالت ترزح تحت وطأة المحرّمات والممنوعات والمحجّرات بأنواعها المختلفة دينا وسياسة واجتماعا وثقافة. فكيف يمكن للتحاور أن يكون مجديا إذا كانت الحجة حبيسة الفكر الماضوي وإذا كان الخطاب محددا من بداياته بالمحرمات والممنوعات؟
أمّا الأمر الثاني فهو أنّ هذه المعقولية العربية الآن ما تزال في مرحلة الوجداني والانفعالي والغريزي. وقد شدّد الفلاسفة منذ أفلاطون على حيوانيّة هذه المرحلة، واعتبروا أنّ الإنسان يكتسب إنسانيّـته متى استنجد بالعقل للحدّ من تهور الوجدان ومتى أصبح يتعامل مع حياته اليومية بالعقل والتعقل ولا بالعواطف والغضبيّة.
وقد بيـّنت في دراسات سابقة كيف أنّنا مازلنا نتعامل مع قضايانا بواسطة الغضب والانفعال وأحيانا بالعنف العشوائي دون تروّ ودون نقد وتنظير واستشراف. فمعقوليتنا ليست إلى الآن- رغم بعض المحاولات المتفردة والجادة- معقولية التحليل والبحث والدرس والتحقيق والنقد وبالتالي فهي ليست معقولية الإبداع والابتكارات العلمية والاكتشافات التكنولوجية. ولابدّ أن نلاحظ هنا أنّنا عندما نتحدث عن الوجدان فلسنا نريد التقليل من أهميته ولا الاستغناء عنه في معاملاتنا. فالوجدانية ضرورية في حياتنا اليومية.
ونعني بها قبل كل شيء الدخول في علاقة مباشرة ودون واسطة مع الأشياء ومع الحياة مادة وروحا. لقد توصّل الإنسان بعقله وإحساسه إلى معرفة ذاته والاعتراف بالغير من حيث هو آخر له الحق بأن يعيش ويفكر ويختار ويبدع حسب إرادته وانطلاقا من ثقافته وعقائده وطموحاته، ولا من حيث هو نتيجة لإرادتي وتطبيقا لاختياراتي. فالوجدانية قد تحرّر العواطف وتكسّر القيود للتـقارب والتحابب والتآنس والاحترام والتسامح، ولكنها قد تبعث أيضا شحنات عدوانية وتسبّب الكراهية والتقتيل وتصل إلى اللامعقول واللامقبول عندما تصبح الوجدانيّة وحدها محرّك تدبير شؤون النّاس. فلسنا نريد لمعقوليّـتنا أن تنحى هذا المنحى في الوجدانية المتطرّفة ولا نريد لها أن تكون مبرّرا للإرهاب والتقتيل والتخريب. أما الوجدانية المنشودة فهي التي تفجّر الطاقات الإبداعية لسعادتنا وسعادة البشر وهي التي تعطي للروحانيّات قيمتها العظيمة في الحياة وهي التي تحرّر الغرائز ليكون الإنسان حيّا حيويّا يتمتع بحياته وبإنسانيته. فالإنسان لن يكون عقلا فقط ولن يكون أداة وآلة. لأنّه يعيش ويشعر لذة اختياراته وعقائده وروحانياته. ولكن الشرط الأكبر في كل ذلك هو أن يكون عقله دائما سيّـد الموقف بحيث إذا ما ارتبط الوجدان بالعقل أصبح الوجدان حيويا وأصبح العقل رحمة.
وليس ثمة شك أن معقوليتنا لم تصل بعد إلى مستوى هذا النسيج المبدع بين العقل والوجدان الذي سيكون حتما أرضية صلبة للنقاش العمومي المصحوب بالبرهان والتسامح.
أمّا الأمر الثالث فهو أنّ المعقولية العربية استتباعا للنقطة الثانية ما تزال في جزء منها على الأقل حبيسة الشعارات والأحكام السريعة والمواقف الإيديولوجية. ما زلنا لم نصل بعد إلى ما سماه الفارابي «جودة الروية». نتحاور بالشعارات والمواقف الصلبة والكل يحاول تمرير أفكاره وكأنها الحقيقة الواحدة والمطلقة. زد على ذلك أنّها لم تتعلم فعالية السؤال في حد ذاته ونجاعة النقد المتواصل. فهي تبقى معقولية الأجوبة الجاهزة التي لا تتزحزح.
أما الأمر الرابع والأخير فهو أنّ المعقولية العربية الآن خاضعة إلى منهجية المحاكاة والتقليد في تعاملها مع قضايانا اليومية. إما أن تكون ذات مرجعية ماضوية تحاكي أقوال السلف وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل، وإما أن تكون تابعة لإيديولوجية دخيلة تحاكي أقوال مثقفين غربيين وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل. فالوعي الرديء والمهزوز الذي يسود اليوم المعقولية العربية هو في غالبيته وعي مغلق ومتحجر يقوم على التقليد الأعمى ويرفض الإبداع والتفكير العقلي المشفوع ببرهان.
وحتى لا نتعسف على معقوليتنا لابد أن نلاحظ أنّ بجانب هذه المعطيات السلبية توجد بوادر العقل العلمي الصّائب والمبدع، ولكنه بقي مغبونا ومقهورا تحالفت ضده قوى الرجعية وقوى التقنوقراطية، تلك القوى التي تحاول الاستحواذ على المعرفة في البلدان العربية.
كيف يمكننا إذن تطوير ذاتنا واستيعاد وعينا واستئناف حضارتنا؟
ليست لي الإجابة الكافية، ولكنني أزعم أن ذلك يكمن في أن تأخذ المعقولية العربية سبيل الحرية والإبداع حتى نتمكن من التحاور التعقلي الذي يجعلنا كلنا ومهما اختلفت المآرب والمذاهب في تعايش سلمي خدمة للوطن وللأمة.